كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي هذا النوع من المصائب يشعر الإنسان بألم الفَقْد ولذْعة الخسارة، لكن لا ضغن فيها على أحد.
إذن: الصبر على هذه الأحداث قريب؛ لأنه ابتلاء وقضاء وقدر، فلا يحتاج الأمر بالصبر هنا إلى توكيد، ويناسبه قوله تعالى: {واصبر على مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17].
أما النوع الآخر: فهو المصائب التي تقع بفعل فاعل، كالقتل مثلًا، فإلى جانب الفَقْد يوجد غريم لك، يثير حفيظتك، ويهيج غضبك، ويدعوك إلى الانتقام كلما رأيته، فالصبر في هذه أصعب وحَمْل النفس عليه يحتاج إلى توكيد كما في الآية الثانية: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43].
فاستعمل هنا لام التوكيد؛ لأن الصبر هنا شاقّ، والفرصة مُتَاحَة للشيطان لِيُؤلّب القلوب، ويثير الضغائن والأحقاد.
كما نلاحظ في الآية الأولى قال: {وَاصْبِرْ}.
وفي الثانية قال: {صَبَر وغَفَر} لأن أمامه غريمًا يدعوه لأنْ يغفر له.
ويُحكى في قصص العرب قصة اليهودي المرابي الذي أعطى رجلًا مالًا على أنْ يردَّه في أجل معلوم، واشترط عليه إنْ لم يَفِ بالسداد في الوقت المحدد يقطع رَطْلًا من لحمه، ووافق الرجل، وعند موعد السداد لم يستطع الرجل أداء ما عليه.
فرفع اليهودي الأمر إلى القاضي وقَصَّ عليه ما بينهما من اتفاق، وكان القاضي صاحب فِطْنة فقال: نعم العقد شريعة المتعاقدين، وأمر له بسكين، وقال: خُذْ من لحمه رَطْلًا، ولكن في ضربة واحد، وإنْ زاد عن الرطل أو نقص أخذناه من لحمك أنت.
ولما رأى اليهودي مشقة ما هو مُقْدِم عليه آثر السلامة وتصالح مع خصمه.
والسؤال الآن: ما علاقة هذه الآية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} [النحل: 126] بما قبلها: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125].
الدعوة إلى منهج يلفت الإنسان خليفة الله في أرضه أنْ يلتزمَ بمنهج الله الذي استخلفه، ووضع له هذا المنهج لِيُنظّم حركة حياته، والداعية يواجه هؤلاء الذين يُفسدون في الأرض، ويحققون لأنفسهم مصالح على حساب الغير، والذي يحقق لنفسه مصلحة على حساب غيره لابد أن يكون له قوة وقدرة، بها يطغى ويستعلي ويظلم.
فإذا جاء منهج الله تعالى ليعدل حركة هؤلاء ويُخرجهم مما أَلفُوه، وينزع منهم سلطان الطغيان والظلم، ويسلبهم هذا السوط الذي يستفيدون به، فلابد أنْ يُجادلوه ويصادموه ويقفوا في وجهه، فقد جمع عليهم شدة النصح والإصلاح، وشدة تَرْك ما ألفوه.
فعلَى الداعية إذن أن يتحلى بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادلهم بالتي هي احسن، فإذا ما تعدَّى أمرُهم إلى الاعتداء على الداعية، إذا ما استشرى الفساد وغلبت شراسة الطباع، فسوف نحتاج إلى أسلوب آخر، حيث لم يَعُدْ يُجدي أسلوب الحكمة.
ولا بُدَّ لنا أن نقفَ الموقف الذي تقتضيه الرجولة العادية، فضلًا عن الرجولة الإيمانية، وأن يكون لدينا القدرة على الرد الذي شرعه لنا الحق سبحانه وتعالى، دون أن يكون عندنا لَدَد في الخصومة، أو إسراف في العقوبة.
فجاء قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].
وفي الآية تحذير أن يزيدَ الردّ على مثله، وبذلك يتعلم الخصوم أنك خاضع لمنهج رباني عادل يستوي أمامه الجميع، فهم وإن انحرفوا وأجرموا فإن العقاب بالمثل لا يتعداه، ولعل ذلك يلفتهم إلى أن الذي أمر بذلك لم يطلق لشراسة الانتقام عنانها، بل هَدَّأَها ودعاها إلى العفو والصفح، ليكون هذا أدعى إلى هدايتهم.
وهذا التوجيه الإلهي في تقييد العقوبة بمثلها قبل أن يتوجه إلى أمته صلى الله عليه وسلم توجّه إليه صلى الله عليه وسلم في تصرُّف خاص، لا يتعلق بمؤمن على عموم إيمانه، ولكن بمؤمن حبيب إلى رسول الله، وصاحب منزلة عظيمة عنده، إنه عمه وصاحبه حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء رضي الله عنه.
فقد مثَّل به الكفار في أُحُد، وشقَّتْ هند بطنه، ولاكت كبده، فشقَّ الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثَّر في نفسه، وواجه هذا الموقف بعاطفتين: عاطفته الإيمانية، وعاطفة الرحم والقرابة فهو عمه الذي آزره ونصره، ووقف إلى جواره، فقال في انفعاله بهذه العاطفة: «لئن أظهرني الله عليهم لأُمثِّلنَّ بثلاثين رجلًا منهم».
ولكن الحق سبحانه العادل الذي أنزل ميزان العدل والحق في الخلق هَدَّأ من رَوْعه، وعدَّل له هذه المسألة ولأمته من بعده، فقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].
والمتأمل للأسلوب القرآني في هذه الآية يلحظ فيها دعوة إلى التحنُّن على الخصم والرأفة به، فالمتحدث هو الله سبحانه، فكل حرف له معنى، فلا تأخذ الكلام على إجماله، ولكن تأمل فيه وسوف تجد من وراء الحرف مرادًا وأن له مطلوبًا. لماذا قال الحق سبحانه: {وإنْ} ولم يستخدم {إذا} مثلًا؟
إن عاقبتم: كأن المعنى: كان يحب ألاَّ تعاقبوا.
أما {إذا} فتفيد التحقيق والتأكيد، والحق سبحانه يريد أنْ يُحنِّن القلوب، ويضع ردَّ العقوبة بمثلها في أضيق نطاق، فهذه رحمة حتى من الأعداء، هذه الرحمة تُحبِّبهم في الإسلام، وتدعوهم إليه، وبها يتحوَّل هؤلاء الأعداء إلى جنود في صفوف الدعوة إلى الله.
كما أن في قوله: {عَاقَبْتُمْ} دليل على أن ردَّ العقوبة يحتاج إلى قوة واستعداد، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].
كأنه يقول: كونوا دائمًا على استعداد، وفي حال قوة تُمكنكم من الردِّ إذا اعتُدِي عليكم، كما أن في وجود القوة والاستعداد ما يردع العدو ويرهبه، فلا يجرؤ على الاعتداء من البداية، وبالقوة والاستعداد يُحفظ التوازن في المجتمع، فالقوي لا يفكّر أحد في الاعتداء عليه.
وهذا ما نراه الآن بين دول العالم في صراعها المحموم حول التسلُّح بأسلحة فاتكة.
وكلمة: {مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].
نلاحظ أن الردَّ على الاعتداء يُسمَّى عقوبة، لكن الاعتداء الأول لماذا نُسميه أيضًا عقوبة؟
قالوا: لأن هذه طريقة في التعبير تسمَّى المشاكلة، أي: جاءت الأفعال كلها على شاكلة واحدة.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40].
لأن ردَّ السيئة لا يُسمَّى سيئة.
ولسائل في هذه القضية أن يسأل: طالما أن الإسلام يسعى في هذه المسألة إلى العفو، فلماذا لم يُقرِّره من البداية؟ وما فائدة الكلام عن العقوبة بالمثل؟
نقول: لأن المجتمع لا يكون سليم التكوين إلا إذا أَمِن كل إنسان فيه على نفسه وعِرْضه وماله.
. إلخ، وهذا الأمن لا يتأتَّى إلا بقوة تحفظه، كما أن للمجتمع توازنًا، هذا التوازن في المجتمع لا يُحفظ إلا بقوة تضمن أداء الحقوق والواجبات، وتضمن أن تكون حركة الإنسان في المجتمع دون ظلم له.
كما أن للحق سبحانه حكمة سامية في تشريع العقوبة على الجرائم، فهدف الشارع الحكيم أن يَحُدَّ من الجريمة، ويمنع حدوثها، فلو علم القاتل أنه سيُقتل ما تجرّأ على جريمته، ففي تشريع العقوبة رحمة بالمجتمع وحفظ لسلامته وأمْنه.
ونرى البعض يعترض على عقوبة الردة، فيقول: كيف تقتلون مَن يرتد عن دينكم؟ وأين حرية العقيدة إذن؟
نقول: في تشريع قتل المرتد عن الإسلام تضييق لمنافذ الدخول في هذا الدين، بحيث لا يدخله أحد إلا بعد اقتناع تام وعقيدة راسخة، فإذا علم هذا الحكم من البداية فللمرء الحرية يدخل أو لا يدخل، لا يغصبه أحد، ولكن ليعلم أنه إذا دخل، فحكم الردة معلوم.
إذن: شرعَ الإسلامُ العقوبةَ ليحفظ للمجتمع توازنه، وليعمل عملية ردع حتى لا تقع الجريمة من البداية، لكن إذا وقعتْ يلجأ إلى علاج آخر يجتثُّ جذور الغِلِّ والأحقاد والضغائن من المجتمع.
لذلك سبق أن قلنا عن عادة الأخذ بالثأر في صعيد مصر: إنه يظل في سلسلة من القتل والثأر لا تنتهي، وتفزِّع المجتمع كله، حتى الآمنين الذين لا جريرة لهم، وتنمو الأحقاد والكراهية بين العائلات في هذا الجو الشائك، حتى إذا ما تشجَّع واحد منهم، فأخذ كفنه على يديه وذهب إلى وليّ القتيل، وألقى بنفسه بين يديه قائلًا: ها أنا بين يديك وكفني معي، فاصنع بي ما شئت، وعندها تأبى عليهم كرامتهم وشهامتهم أنْ يثأروا منه، فيكون العفو والصفح والتسامح نهاية لسلسلة الثأر التي لا تنتهي.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}.
بعد أن ذكرتْ الآيات فضل الصبر وما فيه من خيرية، وكأن الآية السابقة تمهد للأمر هنا {وَاصْبِرْ} ليأتمر الجميع بأمر الله، بعد أنْ قدَّم لهم الحيثيات التي تجعل الصبر شجاعة لا ضعفًا، كمَا يقولون في الحكمة: من الشجاعة أنْ تجبُنَ ساعة.
فإذا ما وسوس لك الشيطان، وأغراك بالانتقام، وثارت نفسُك، فالشجاعة أنْ تصبر ولا تطاوعهما.
قوله تعالى: {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} [النحل: 127].
من حكمة الله ورحمته أنْ جعلك تصبر على الأذى؛ لأن في الصبر خيرًا لك، والله هو الذي يُعينك على الصبر، ويمنع عنك وسوسة الشيطان وخواطر السوء التي تهيج غضبك، وتجرّك إلى الانتقام.
والحق سبحانه وتعالى يريد من عبده أن يتجه لإنفاذ أمره، فإذا علم ذلك من نيته تولّى أمره وأعانه، كما قال تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].
إياك أن تعتقد أن الصبر من عندك أنت، فالله يريد منك أن تتجه إلى الصبر مجرد اتجاه ونية، وحين تتجه إليه يُجنّد الله لك الخواطر الطيبة التي تُعينك عليه وتُيسِّره لك وتُرضيك به، فيأتي صبرك جميلًا، لا سخطَ فيه ولا اعتراضَ عليه.
ثم يقول تعالى: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النحل: 127].
لقد امتنّ الله على أمة العرب التي استقبلتْ دعوة الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بأنْ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم ومن أوسطهم، يعرفون حَسبَه ونَسبَه وتاريخه وأخلاقه، وقد كان صلى الله عليه وسلم مُحبًا لقومه حريصًا على هدايتهم، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
أي: تعز عليه مشقتكم، ويؤلمه عَنَتكم وتعبكم، حريص عليكم، يريد أن يستكمل لكل كل أنواع الخير؛ لأن معنى الحرص: الضَّنّ بالشيء، فكأنه صلى الله عليه وسلم يضِنّ بقومه.
وقد أوضح هذا المعنى في الحديث الشريف: «إنما مثلي ومثَل أمتي كمثل رجل استوقد نارًا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحّمون فيه».
لذلك حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه لما رأى من كفرهم وعنادهم وتكبُّرهم عن قبول الحق، وهو يريد لهم الهداية والصلاح؛ لأنك إذا أحببتَ إنسانًا أحببتَ له ما تراه من الخير، كمن ذهب إلى سوق، فوجدها رائجة رابحة، فدلّ عليها من يحب من أهله ومعارفه.
كذلك لما ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم حلاوة الإيمان أحبَّ أنْ يُشاركه قومه هذه المتعة الإيمانية.
والحق سبحانه وتعالى هنا يُسلِّي رسوله، ويخفف عنه ما صُدم في قومه، يقول له: لا تحزن عليهم ولا تُحمّل نفسك فوق طاقتها، فما عليك إلا البلاغ، ويخاطبه ربه في آية أخرى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} [الكهف: 6] أي: لا تكن مُهْلكًا نفسَك أسَفًا عليهم.
وقوله: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127].
الضيق: تأتي بالفتح وبالكسر، ضِيْق، ضَيْق.
والضيق: أن يتضاءل الشيء الواسع أمامك عما كنت تُقدِّره، والضيق يقع للإنسان على درجات، فقد تضيق به بلده فينتقل إلى بلد آخر.
وربما ضاقت عليه الدنيا كلها، وفي هذه الحالة يمكن أنْ تسعه نفسه، فإذا ضاقتْ عليه نفْسه فقد بلغ أقصى درجات الضيق، كما قال تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا في الجهاد مع رسول الله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 118].
فالحق سبحانه ينهى رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يكون في ضيق من مكر الكفار؛ لأن الذي يضيق بأمر ما هو الذي لا يجد في مجال فكره وبدائله ما يخرج به من هذا الضيق، إنما الذي يعرف أن له منفذًا ومَخْرجًا فلا يكون في ضَيْق.
فالمعنى: لا تَكُ في ضيق يا محمد، فالله معك، سيجعل لك من الضيق مخرجًا، ويرد على هؤلاء مكرهم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30].
ولذلك يقول: لا كرب وأنت رب. فساعة أن تضيق بك الدنيا والأهل والأحباب، وتضيق بك نفسك فليسعْك ربك، ولتكُنْ في معيته سبحانه؛ ولذلك قال تعالى بعد ذلك: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}.
هذه قضية معيّة الله لمن اتقاه، فمَنِ اتقى الله فهو في جواره ومعيته، وإذا كنت في معية ربك فمَنْ يجرؤ أن يكيدك، أو يمكرُ بك؟
وفي رحلة الهجرة تتجلى معية الله تعالى وتتجسد لنا في الغار، حينما أحاط به الكفار، والصِّدِّيق يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدميه لَرَآنا، فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو واثق بهذه المعية: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
فما علاقة هذه الإجابة من رسول الله بما قال أبو بكر؟
المعنى: ما دام أن الله ثالثهما إذن فهما في معية الله، والله لا تدركه الأبصار، فمَنْ كان في معيته كذلك لا تدركه الأبصار.
وقوله: {اتقوا} [النحل: 128].
التقوى في معناها العام: طاعة الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، ومن استعمالاتها نقول: اتقوا الله، واتقوا النار، والمتأمل يجد معناها يلتقي في نقطة واحدة.
فمعنى اتق الله: اجعل بينك وبين عذاب الله وقاية وحاجزًا يحميك، وذلك باتباع أمره واجتناب نهيه؛ لأن للحق سبحانه صفات رحمة، فهو: الرؤوف الرحيم الغفور، وله صفات جبروت فهو: المنتقم الجبار العزيز، فاجعل لنفسك وقاية من صفات الانتقام.
ونقول: اتقوا النار، أي: اجعلوا بينكم وبين النار وقاية، والوقاية من النار لا تكون إلا بطاعة الله باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، إذن: المعنى واحد، ولكن جاء مرّة باللازم، ومرَّة بلازم اللازم.
وقوله: {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128].
المحسن: هو الذي يُلزم نفسه في عبادة الله بأكثر مما ألزمه الله، ومن جنس ما ألزمه الله به، فإنْ كان الشرع فرض عليك خمس صلوات في اليوم والليلة، فالإحسان أن تزيدها ما تيسَّر لك من النوافل، وإنْ كان الصوم شهرَ رمضان، فالإحسان أنْ تصومَ من باقي الشهور كذا من الأيام، وكذلك في الزكاة، وغيرها مِمَّا فرض الله.
لذلك نجد أن الإحسان أعلى مراتب الدين، وهذا واضح في حديث جبريل حينما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراك».
والآية الكريمة تُوحِي لنا بأن الذي اتقوا لهم جزاء ومعيّة، وأن الذين هم محسنون لهم جزاء ومعيّة، كُلٌّ على حسب درجته؛ لأن الحق سبحانه يعطي من صفات كمال لخَلْقه على مقدار معيتهم معه سبحانه، فالذي اكتفى بما فرض عليه، لا يستوي ومَنْ أحسن وزاد، لابد أن يكون للثاني مزيَّة وخصوصية.
وفي سورة الذاريات يقول تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15-16].
لم يقل مؤمنين؛ لأن المؤمن يأتي بما فُرِض عليه فحسب، لكن ما وجه الإحسان عندهم؟
يقول تعالى: {كَانُواْ قَلِيلًا مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 17-19].
وكلها أمور نافلة تزيد عما فرض الله عليهم.
ويجب أن نتنبه هنا إلى أن المراد من قوله تعالى: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19].
ليست الزكاة، بل هي الصدقة، لأنه في الزكاة قال سبحانه: {حَقٌّ مَّعْلُومٌ} [المعارج: 24]. اهـ.